القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة حورية






اسمي حورية. بلغت الستين من عمري ولا تزال ذاكرتي تحتفظ بسنوات العمر كأنها شريط لم يقطع منه مشهد واحد لا بالحزن ولا بالفرح. لم أكمل دراستي ولم ألتحق بوظيفة عشت حياتي في بيت أسرتي التي كانت بسيطة الحال. لم أكن أملك من الجمال شيئا يذكر ولم أكن ممن يلفتن الأنظار أو تقال عنهن كلمات الإعجاب. كنت فتاة عادية في كل شيء حتى في أحلامي كنت أتواضع.


مرت السنوات ثقيلة كأنها لا تريد أن تنقضي. رأيت صديقاتي واحدة تلو الأخرى تذهب إلى بيت الزوجية يبارك الناس لهن وتعلو الزغاريد في بيوتهن بينما كنت أجلس في غرفتي ليلا وأتساءل متى يأتي نصيبي هل كتب لي أن أبقى وحدي
حتى عندما تخطيت الثلاثين لم يطرق بابي أحد وكأنني غير مرئية. كنت أقول لنفسي ربما هذا نصيبي وسأقضيه مع والدي وأعتني بهما فلا حاجة لي برجل. ومع ذلك كان في قلبي بقعة صغيرة تختبئ فيها أمنية دافئة أن أحب ويحبني أحدهم أن أكون امرأة تشعر زوجها بالأمان ويكون لي بيت ودفء وعائلة.



وفي مساء رتيب من أمسيات الخريف دخلت علي عمتي بخبر غير مجرى حياتي. قالت لي
حورية في خاطب جايلك وهو جاد وأهله كلموني بالفعل.
لم أصدق أذني! خاطب أنا! بعد كل هذه السنين!
ابتسمت عمتي وأردفت


الوسيطة قالت إنه شاب في التلاتينات عمره 33 سنة بيشتغل

في شركة أبوه ولسه ما اتجوزش. قالت كمان إنه محترم وشكله وسيم جدا.
ارتجف قلبي لكنني ظللت حذرة. سألتها
طيب ليه اختارني أنا ما أنا لا جميلة ولا صغيرة!
نظرت لي وقالت
فيه حاجة محتاجة تعرفيها الشاب فقد بصره في حادث من خمس سنين وعمل عمليات كتير لكن ما نجحتش. هو دلوقتي ضرير.
ساد صمت ثقيل ثم خرجت عمتي من الغرفة وتركتني وحدي مع صدمة غريبة.


قضيت ليلتي أفكر في كلام عمتي ضرير! قلبي لم يعرف كيف يتلقى الصدمة لم أكن أستخف بمحنته ولكنني خفت من حياة لا أفهمها من زواج لا أعرف ملامحه. لم أكن أدري كيف أعيش مع رجل لا يرى وكيف سيكون يومي معه من سيتحمل من ومن سيرى من!
وفي الصباح جاءتني جدتي رحمها الله وجلست إلى جواري رأت في عيني ترددا وربما خيبة. وضعت يدها على يدي وقالت
يا بنتي مش دايما النور في العينين ساعات النور بيكون في القلب. يمكن يكون أعمى لكن قلبه شايف. لعل في الضرير حياة يملأها العبير ما تعرفيش الخير فين اجلسي معاه وشوفي بعين قلبك قبل ما تحكمي.



كانت كلماتها كالماء البارد على نار قلقي. وافقت على رؤيته.
دخل الغرفة يسير بهدوء ممسكا بعصاه التي تدله على الطريق وخطاه كانت واثقة رغم الظلام الذي يحيط به. رفع رأسه باتجاهي وكأنه يشعر بوجودي دون أن يراني ثم قال
السلام
عليكم أنا محمود.


رددت بصوت منخفض
وعليكم السلام أنا حورية.



ابتسم وقال
أنا مش شايفك بس حاسس إنك قدامي وده كفاية.


لم يكن اللقاء كما توقعت. كان إنسانا بسيطا خفيف الظل يحكي بنكتة خفيفة وروح مرحة ويملك عقلا ناضجا. لم أشعر لوهلة واحدة بالشفقة عليه بل بالعكس شعرت أنني أنا من يحتاج أن ينظر إليها بهذا العمق.


روى لي عن حياته قبل الحادث عن السهر والسفر واللهو عن الحياة الفارغة التي عاشها وعن الحادث الذي كان نقطة التحول في عمره. 

قال لي أنا فقدت بصري بس كسبت نفسي والحمد لله. يمكن ده كان الطريق الوحيد إني أهدى وأفهم الدنيا.


انتهى اللقاء وعدت إلى البيت وقلبي ينبض بشيء لم أفهمه ربما إعجاب ربما دهشة ربما بداية لحياة جديدة.


لم تمض أيام كثيرة حتى تمت الخطبة. شعرت أنني أعيش حلما غريبا. كانت الخطبة هادئة بلا مظاهر صاخبة لكن مليئة بالود والاحترام. محمود لم يكن يوما أنانيا أو متطلبا. كان يسأل عني يتصل بي ليسأل كيف مر يومي يطلب أن يسمع صوتي حتى يطمئن وكان يشركني في أحلامه ومشاريعه.


لكنني في داخلي كنت خائفة من شيء لم أجرؤ على البوح به
هل سيعتمد علي في كل شيء هل سأتحول إلى خادمة أو ممرضة
وهل سأحتمل أن أكون زوجة لرجل لا يراني ولا يشعر بجمالي القليل أصلا!


إلا أن الأيام كشفت لي حقيقة
مدهشة لقد تغير محمود كثيرا.


تم الزواج بعد خطبة قصيرة لم تتجاوز الشهرين. لم نقم حفلا كبيرا بل كان الزفاف بسيطا حضره المقربون فقط لكن رغم بساطته كنت أشعر وكأنني أميرة في ليلة عرشها. محمود أمسك بيدي عند الباب وسار معي كأن قدميه تحفظ الطريق وكأن قلبه يرشده إلي.
أول ليلة في بيتنا لم تكن كما كنت أتخيلها ولا كما كانت تحكي النساء. لم تكن لحظة خجل بل لحظة راحة. 

سهرنا نحكي ونتأمل صوت المطر خلف النافذة وكان يقول لي
أنا مش محتاج أشوفك بعيني قلبي شايفك شايف فيكي الأمان اللي عمري ما شفته.


في الأيام الأولى كنت أراقب كل حركة أقوم بها خائفة من أن أرتكب خطأ أو أن يشعر بالعجز أو الاحتياج. لكنني كنت أنا المتفاجئة!
محمود كان يعد قهوته وحده يعرف أماكن الأشياء في المطبخ أفضل مني يبدل ملابسه ويقرأ الكتب بلغة برايل بل ويقوم بإصلاح بعض الأعطال البسيطة في البيت.


وذات مرة سألته باستغراب
إزاي بتعمل كل ده
ضحك وقال
عشان ما تحسيش إني حمل عليكي أنا عيني راحت مش إرادتي.


حينها سقطت أول دمعة حب من قلبي له.
مرت الشهور وكبرت علاقتنا مثل شجرة نبتت في أرض عطشى. حملت بطفلنا الأول وكنا ننتظر اليوم الذي يملأ فيه صوته بيتنا فرحا.
وحين ولد سجد محمود شكرا لله ثم طلب
أن يحمل صغيره ضمه إلى صدره وكأنه يحاول أن يرى ملامحه بأصابعه.


تكرر المشهد ثلاث مرات أخرى. أنجبنا أربعة أطفال. كان أبا حاضرا مهتما بكل التفاصيل يعرف أصواتهم يميز بكاءهم ويقبل جباههم وهم نيام.
لم أشعر يوما أنه أقل من أي أب بل بالعكس كنت أرى في كل تصرفاته رجولة كاملة.


كنت أخاف من أن يراني ذات يوم عادية أو ليست جميلة خصوصا عندما كان يحكي لي عن ماضيه وكيف كان يحب الفتيات الجميلات قبل الحادث. لكن مع مرور الوقت اكتشفت أنه لم يعد يرى الجمال كجسد بل كروح.
قال لي مرة وأنا أضع له الطعام
عارفة يا حورية فيه حاجات الواحد ما يكتشفهاش غير لما يخسر بصره الجمال الحقيقي مش بيبان بالعين الجمال الحقيقي بيتحس.
وكانت تلك الجملة كأنها خلعت كل خوفي من صدري.


رغم كل السعادة كان هناك حلم يطارده أن يعود له بصره.
كان كلما ادخر مالا حجز موعدا مع طبيب جديد وبدأ رحلة أمل جديدة. خضع لعدة عمليات لزراعة القرنية وفي كل مرة كانت تقابل بالفشل. ومع كل فشل كنت أتنفس الصعداء ثم أبكي خجلا من نفسي.


لم أكن أريد له أن يبقى ضريرا ولكن كنت أخشى أن يبصرني.


هل سأعجبه هل سيبقى يحبني كما أحبني دون أن يراني
هل سيقارنني بغيري من الجميلات من حوله
أسئلة كثيرة كانت تؤرقني ليلا وتربكني في النهار.


ومع كل ذلك لم أظهر له خوفي. بل كنت أدعمه وأمسك بيده وهو ذاهب إلى العمليات وأدع الله أن يمنحه البصر بينما في داخلي كنت أتمزق.
وجاء اليوم الذي تغير فيه كل شيء
بعد عشر سنوات من المحاولات الفاشلة سمعنا عن طبيب متخصص في زراعة القرنية بالخارج ذو سجل حافل بالنجاحات. تشجع محمود وقرر السفر وبذلنا كل ما نملك من مدخراتنا حتى أنني بعت بعض المجوهرات القليلة التي كانت بحوزتي. كان الأمل هذه المرة مختلفا أقوى.


في اليوم الموعود سافرت معه وجلست في المستشفى بين رجاء وخوف. كانت العملية دقيقة استغرقت ساعات طويلة كأنها دهر كامل. وعندما خرج الطبيب قال بابتسامة
العملية نجحت. عليه فقط أن يبقى معصوب العينين عدة أيام وبعدها نزيل الغطاء وننتظر النتيجة النهائية.
عدنا إلى المنزل وأنا أعيش بين دعاء صادق وقلق شديد. صرت أراقب نفسي في المرآة كثيرا أعد التجاعيد أبحث عن ملامح الجمال المدفون أضع قليلا من المساحيق ثم أزيلها سريعا وأقول لنفسي
ما الفائدة هو لم يرني هكذا ولن يقبل بي كما أنا.


وأخيرا جاء اليوم. دخل الطبيب وبدأ في إزالة الغطاء قطعة قطعة. لم أتحمل وخرجت من الغرفة مع الأطفال وجلست في الزاوية البعيدة أضم نفسي وأرتجف.


بعد دقائق قليلة سمعنا صوت بكاء محمود. دخل الطبيب مبتسما وقال
إنه يرى الآن رؤيته تعود تدريجيا لكنه يستطيع تمييز الأشكال والألوان.
دخلنا عليه كان وجهه يضيء كمن أعيدت له الحياة. أخذ يقبل
الأطفال واحدا تلو الآخر ثم قبل والدته ووالده وبدأ ينظر حوله ثم سأل
حورية فين حورية
ارتعش قلبي. لم أتحرك. شعرت بأن أقدامي كبلت.
أشار الطبيب لي أن أقترب فاقتربت على مضض. وحين أصبحت أمامه نظر إلي مطولا ثم ابتسم وقال
أخيرا شوفتك يا عروستي الجميلة!


انهمرت دموعي بلا توقف لا من الفرح فقط بل من الذهول. لم أكن أصدق أن أول كلماته بعد أن أبصرني كانت جميلة.
ضمني أمام الجميع وقبل يدي وقال
أكتر بكتير من اللي كنت متخيل قلبك كان بيقوللي إنك حلوة بس الحقيقة إنك أجمل من كل اللي شفتهم قبل كده.
عدنا إلى بيتنا. كان محمود يكتشف تفاصيل الحياة من جديد كان يتحرك في البيت ببطء يمسك الأشياء ويتأملها. كنت أراقبه وأبتسم لكن قلبي لم يكن مطمئنا بعد.


كنت أقول لنفسي هو بس بيحاول ما يجرحنيش بس أكيد هيتغير. أكيد أول ما يشوف بنات الشركة أو قريباته هيبدأ يقارن وهيبعد.
أصبحت أعيش صراعا داخليا حبي له يقابل وساوس قلبي. كنت أتحسس تصرفاته أفتش في عينيه أراقب اهتمامه بي لكن المفاجأة كانت في ثباته. لم يتغير بل زاد اهتمامه.


صار كل يوم يعود بهدية صغيرة أو كلمات حب أكبر. كان يتغزل بي في كل لحظة كأنه يقول لي
دلوقتي بشوفك وبحبك أكتر.


بعد عامين من نجاح العملية وفي يوم حزين فقدت والدي في حادث مفاجئ. انهرت تماما. كانت روحي مثقلة بالحزن وكأن الأرض فقدت توازنها من تحتي.


لكن محمود كان أول من وقف إلى جانبي. لم يكتف بأن يواسيني بالكلام بل كان الأب الذي فقدته وكان لي الأم والصديق والسند. كان يحضر لي الطعام بيده يلبسني حجابي حينما كنت لا أقدر يجلس جواري بالساعات ويقرأ لي القرآن حتى أهدأ.


وفي إحدى الليالي قال لي وهو يربت على ظهري
أنا مش بس جوزك أنا ابنك وأبوك وأخوك وكل اللي محتاجاه في الدنيا.


نظرت له والدموع تملأ عيني وقبلت جبينه وقلت
الحمد لله إني قبلت أتجوزك الحمد لله إني سمعت كلام جدتي.
مرت السنوات كبر أولادنا وكلما رأيتهم يحتفلون بنجاح أو يمرون بأزمات كان محمود هو النور الذي يدلهم والبوصلة التي ترشدهم.
ورغم أنه استعاد بصره إلا أن بصيرته كانت أنقى من عينيه. لم يكن فقط زوجي بل كان رجلي وسندي وهدية من الله.
كل من حولي كانوا يقولون
كنت محظوظة إنه وافق يتجوزك رغم فقده للبصر.
لكنني أقول من قلبي
أنا اللي كنت محظوظة إنه فقد بصره علشان يشوفني بقلبه.
جدتي كانت
على حق حين قالت
لعل في الضرير حياة يملأها العبير.


تعليقات

التنقل السريع