القائمة الرئيسية

الصفحات

كان هناك ولد يبلغ من العمر عشر سنوات يعيش مع والده بعد أن توفيت أمه أثناء ولادته.

كان هناك ولد يبلغ من العمر عشر سنوات يعيش مع والده بعد أن توفيت أمه أثناء ولادته.




كان والده يعلمه ويعده جيدا للغد فقد كان بالنسبة له الأب والصاحب والمعلم وكل شيء.

ورغم أن الأب لم يكن متعلما إلا أن حلمه كان أن يرى ابنه طبيبا فكان لا يناديه إلا بيا دكتور حتى أصبحت الكلمة حلما وأملا يعيش في قلب الصغير.

كانا يعيشان في سعادة كبيرة فقد عوض الأب ابنه عن الأم التي لم يرها وكان يفعل كل شيء ليجعله رجلا قادرا على مواجهة الدنيا وحده لأنه كان دائم الشعور أنه سيرحل يوما ويتركه يواجه مصيره في هذه الحياة بمفرده.

وقد كان

فبعد فترة ليست طويلة مرض الأب مرضا خطيرا وتدهورت حالته مع الوقت وأحس أنها النهاية.

الولد كان يجلس بجانبه يبكي لا يعلم أهو يبكي لفراق أبيه أم خوفا من مستقبل مجهول.

وعندما أيقن الأب أنه على مشارف الموت أرسل إلى عم الولد وقال له

ابني أمانة بين يديك اجعله يعيش معك واعتبره كابنك ولا تبخل عليه في التعليم.

أنا أعددت ابني ليكون رجلا فهو لن يتعبك في تربيته.

ولولا أن هذه الشقة التي نسكن فيها إيجار وابني لن يقدر على سدادها لجعلته يجلس بها.

لكني أوصيك أن تعتني به وتعلمه فأنا لم أترك له المال الكافي ليواجه

الحياة وحده فأرجوك أوعدني أن تكون له سندا.

فقال العم بصوت متأثر

أوعدك يا أخي أني هاعتبره زي ابني.

وبعدها فارق الأب الحياة.

أخذ العم الولد ليعيش معه وعندما دخل الشقة قالت له زوجته بحدة

هو احنا كنا ناقصين حد يقعد معانا ونصرف عليه! هو انت دخلك بيكفينا لما يكفي غيرنا

فقال لها العم

اعتبريه زي ابنك يعني أرميه في الشارع دا أبوه موصيني عليه!

سمع الولد الكلام وأحس أن أيام الشقاء قد بدأت.

مرت الأيام وكان لدى العم ابن في نفس عمره تقريبا لكنه كان مدللا كثيرا لا يحب الولد ودائما يقول له

أنا كنت عايش لوحدي ومابحبش حد يشاركني في حاجتي ولا ينام معايا!

فكان الولد ينام على الأرض حتى لا يضايقه.

كل ما في باله أن يتحمل العيشة معهم حتى يحقق أمل والده بأن يكون طبيبا.

لم يكن يجلس معهم كثيرا بل كان يقضي معظم وقته يذاكر.

لكن لم تهنأ له الأيام فكانت زوجة عمه كلما رأته يذاكر وابنها مقصر في دراسته اشتعلت في قلبها الغيرة.

كان ابنها دائم الرسوب بينما الولد متفوق جدا فكانت تغار منه وتشاجر زوجها قائلة

خليه يسيب المدرسة وينزل يشتغل معاك بدل ما يصرف علينا هو احنا ناقصين مصاريف

لكن العم كان يرفض ويقول

ماينفعش أنا وعدت أبوه إنه يكمل تعليمه وهو متفوق ومش متعبني ومفيش سبب يخليه يسيب المدرسة.

لو حتى رسب مرة واحدة كنت قولت إنه مش نافع لكن دا شاطر ومكافح.

فقالت له زوجته

قول إن مصاريف المدرسة كتير علينا!

سمع الولد الحوار فخرج إليهم والدموع في عينيه وقال

أرجوكم خلوني في المدرسة وأنا مش هاطلب منكم ولا مليم.

وظل يبكي.

فقال له عمه بلطف نادر

ادخل غرفتك ومتخافش يا ابني.

مرت الأيام ولم يطلب الولد منهم أي مصاريف وكانوا فرحين بذلك ولم يسألوا كيف يتصرف أو من أين يأتي بالنقود.

لكن بعد فترة لاحظوا أن المال الذي يدخرونه قد نقص فقالت الزوجة بسخرية

أدي اللي كنت بتدافع عنه! أديك شايف سرقنا!

نادى العم على الولد ونهره وضربه وقال له

إزاي تمد إيدك على فلوسنا وتسرقنا!

قال الولد وهو يبكي

أنا ما سرقتش حاجة والله ما سرقت!

وظل يقسم لهم لكنهم لم يصدقوه.

فقالت الزوجة

أمال مين اللي سرق غيره هو مين الغريب هنا غيره

فقال الولد بحزن

غريب آه أنا غريب بس ما سرقتش.

ثم أسرع إلى غرفته يبكي ويتذكر والده ويقول بصوت متقطع

يا والدي أنا تعبت لما تركتني وحدي أنا مش قادر أحقق حلمك أعمل إيه

ظل يبكي حتى غلبه النوم لكنه لم يصح كعادته ليذهب إلى المدرسة.

وظل نائما طوال اليوم لم يسأل عنه أحد حتى جاء ابن عمه ليوقظه فلم يستجب له

فاقترب منه أكثر وهزه بيديه الصغيرة وهو يقول بصوت يرتجف اصحى يا ابن عمي قوم شوفنا أنا خايف. لكن الولد ظل كما هو ملامحه شاحبة كأنما نام على وجع طويل. هرع الطفل إلى والده والدموع تملأ عينيه

يا أبي يا أبي ابن عمي مش بيرد عليا!

ترك الأب كل ما في يده واتجه مسرعا إلى الغرفة والقلق يسبق خطواته. جلس بجواره ناداه باسمه أكثر من مرة فلم يسمع جوابا. وضع يده على جبينه فوجده ساخنا جدا ويده باردة ووجهه متعب كمن أنهكه السهر والجوع.

يا ابني قوم افتح عينيك أنت سامعني

لكن الصمت ظل سيد الموقف.

أحس العم حينها بشيء يخنق صدره فصاح بابنه

هات الدكتور بسرعة بسرعة يا ولد!

لم تمر دقائق حتى جاء الطبيب يحمل حقيبته نظر إلى الصبي طويلا ثم قال بصوت مائل للحزن

الولد ده في حالة إنهاك تام جسمه ضعيف جدا وضغطه منخفض جدا واضح إنه بقاله أيام ما نامش كويس ولا أكل كويس ولا حتى ارتاح.

تبدلت ملامح العم ووقف صامتا كأنه يراجع كل ما حدث في رأسه. سأل الطبيب

يعني حالته خطر

فقال الطبيب

مش خطر دلوقتي بس لو كان اتأخرنا عليه ساعات كان ممكن الوضع يختلف لازم يدخل مستشفى ويتحط تحت الملاحظة.

نقل الولد

إلى المستشفى مسرعا والعم يمسك بيده طوال الطريق ينظر إليه في حنان لم يعرفه من قبل. جلس بجواره وهو يهمس لنفسه يا ريتني ما صدقتش الكلام يا ريتني سألتك قبل ما أظلمك.

في اليوم التالي جلس الطبيب مع العم وقال له

ابنك ده أقصد ابن أخوك عنده إرهاق شديد جدا واضح إنه بيتعب نفسه فوق طاقته. على حسب فحوصاتي الولد ده ما بينامش أكتر من ساعتين في اليوم من فترة.

قال العم بدهشة

إزاي ده كان بيروح المدرسة ويرجع البيت على طول.

فرد الطبيب

اسأله لما يصحى بس هو واضح إنه كان بيشتغل كمان.

وبعد ساعات طويلة من الانتظار فتح الولد عينيه ببطء فرآه عمه يجلس بجانبه يبتسم له رغم الدموع التي غمرت وجهه.

الحمد لله على سلامتك يا ابني.

قال الولد بصوت ضعيف

أنا آسف يا عمي والله ما سرقت حاجة.

أمسك العم بيده بقوة وقال

اسكت يا ابني أنا اللي آسف أنا اللي ظلمتك. قولي ليه كنت بتسهر كده وليه ما قلتليش إنك محتاج فلوس

أطرق الولد رأسه وقال

ما حبيتش أتعبك ولا أضايق حد. كنت بشتغل شيل في المخزن اللي جنب المدرسة بعد الحصص علشان أقدر أكمل مصاريفي كنت عايز أحقق حلم أبويا.

كلمات الولد سكنت الغرفة والدموع نزلت من عيني العم دون أن يشعر. كان الطبيب يقف بجوارهم وقال بهدوء

صدقني يا حاج الولد ده جوه قلبه قوة مش طبيعية. دي الإرادة اللي بتصنع الرجال.

خرج العم من الغرفة وهو مذهول تذكر وصية أخيه يوم وفاته تذكر كلماته ابني مش هيتعبك بس خليك معاه هيبقى راجل يعتمد عليه.

فهم الآن معنى تلك الوصية.

عاد إلى البيت تلك الليلة والندم يأكل قلبه ونظر إلى زوجته نظرة لم ينظرها من قبل وقال لها بصرامة

من النهارده الولد ده ابني قبل ما

يكون ابن أخويا. واللي هقوله لازم يتنفذ.

حاولت أن ترد عليه لكنها رأت في عينيه حزما لم تعهده فسكتت.

مرت الأيام وعاد الولد من المستشفى بعد أن استعاد صحته. تغيرت نظرة عمه إليه أصبح يهتم به ويسأله عن دراسته ويشتري له ما يحتاجه حتى أنه كان يفخر به أمام الناس ويقول

ده ابن أخويا اللي كان نفسه يبقى دكتور وشوفوا ازاي مكافح.

لكن زوجة العم رغم كل شيء ظلت كما هي تنظر إليه بغيرة تخاف أن يتفوق ابن أخي زوجها على ابنها الكسول. كانت تغلي كلما رأته يذاكر وكلما سمعت كلمات الثناء من الناس عليه ازداد حقدها.

ومع مرور السنين كبر الولد وانتقل إلى الثانوية العامة وحقق أعلى الدرجات ودخل كلية الطب كما كان يحلم هو وأبوه. كانت لحظة دخوله الجامعة لحظة بكاء وفرح معا بكى لأنه تمنى لو كان والده حيا ليراه في تلك اللحظة وفرح لأنه أخيرا لمس حلما عاش من أجله.

ومع الوقت أصبحت العلاقة بينه وبين عمه قوية جدا أما زوجة العم فبدأت تشعر بالندم شيئا فشيئا خصوصا بعدما رأت كيف يعاملها باحترام رغم كل ما فعلته به.

وذات يوم وبينما كان يذاكر في غرفته استعدادا لامتحان صعب سمع صوت صراخ قادم من الخارج. خرج مسرعا فرأى ابن عمه يتشاجر مع أمه بعنف وكانت تصرخ وهي تمسك بيده التي تحاول انتزاع النقود منها.

صرخ الولد

كفاية! سيب أمك!

لكن الشاب دفعها بقوة فسقطت على الأرض فاقدة الوعي. هرع إليها الولد تفقد نبضها ثم قال لعمه الذي وصل في تلك اللحظة

الحقنا يا عمي دي بوادر جلطه لازم الإسعاف فورا!

نفذ ما تعلمه في الجامعة من إسعافات أولية وأبقاها على قيد الحياة حتى وصلت سيارة الإسعاف. وفي المستشفى وقف الطبيب الكبير يشكر الولد أمام الجميع قائلا

اللي أنقذ الست دي ابنك لولا تصرفه السريع كانت حياتها في خطر كبير.

حين سمعت زوجة العم تلك الكلمات أجهشت بالبكاء وأمسكت يده وهي تقول

سامحني يا ابني سامحني على كل لحظة ظلم أنا كنت بحاول أوقف القدر لكن القدر كان رايد إنك تكون سبب نجاتي.

ابتسم الولد وهو يمسح دموعها قائلا

سامحتك يا عمتي والله ما في قلبي غير الخير.

ومن تلك الليلة تغير كل شيء.

عادت المحبة إلى البيت وأصبح الولد ليس مجرد ضيف بينهم بل صار عمود البيت الحقيقي.

كبر وذاع صيته وأصبح من أمهر أطباء المدينة يزور الناس بيته يدعون له وكان عمه يقول بفخر

ده ابن أخويا اللي وفي بوعده واللي خلى وصية أبوه نور في حياتنا.

أما هو فكان دائما يزور قبر والده كل عام يجلس بجانبه يضع باقة ورد ويقول بصوت متهدج

اتطمن يا أبي حلمك اتحقق بقيت دكتور

زي ما كنت بتنده لي من وأنا صغير يادكتور.
أنت الان في اول موضوع

تعليقات

التنقل السريع